إن استضافة الإمارات العربية المتحدة لمؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP28) على مدى أسبوعين في أواخر عام 2023، وفشلها في التوصل إلى اتفاقات حازمة وملزمة مع استمرارها بدعم توسع قطاع الوقود الأحفوري، يعيد تسليط الضوء على الخطأ الذي ارتكبته الأمم المتحدة في منح دول ذات سجل سيء في مجال حقوق الإنسان، الفرصة لاستغلال الأحداث الدولية في سبيل تبييض صورتها. ويعدّ مؤتمر COP28، أحدث دليل على كيفية تحول حدث عالمي بيئي، إلى وسيلة للاستغلال من قبل دولة تتربع في أعلى قائمة منتهكي حقوق الإنسان وقمع الحريات وتجريم المجتمع المدني والمعارضة السياسية.
نتائج دون التوقعات
في 13 ديسمبر 2023، اختتم مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP28) في دبي أعماله، بعد خلافات بارزة وانتقادات لعدد من الدول المشاركة في المؤتمر على مسودة الاتفاق التي وصفت “بالضعيفة”، وكادت تواجه خطرا محتملا في الفشل في التوصل إلى اتفاق بين هذه الدول والبالغ عددها 198 دولة وبعد أن حذفت منها كلمات من نَصّ سابق كانت تفيد بأن الوقود الأحفوري “يمكن الاستغناء عنه تدريجيا”.
جاء الاتفاق بعد خلافات تسببت بتأخير اختتام المؤتمر يومًا إضافيًا، بسبب الاعتراض ما إذا كانت المحصلة النهائية ستتضمن دعوة إلى “الخفض التدريجي” أو “التخلص التدريجي” من الوقود الأحفوري الذي يعد مسؤولًا عن ثلاثة أرباع الغازات المسببة للاحترار العالمي. وكان قد وصف ممثل الاتحاد الأوروبي إيمون رايان مسودة الاتفاق بأنها “غير مقبولة”، مهدداً بمغادرة المؤتمر، قبل أن يستدرك بالقول إن انهيار المحادثات ليس “النتيجة التي يتطلع إليها العالم”.
هذه النقطة الشائكة ظلت محل خلاف على مدى أسبوعين، بين النشطاء والدول المهددة بالاحتباس الحراري من جهة، وبين الدول الكبرى، وهي كانت إحدى أسباب اعتراض المجتمع المدني والمنظمات المعنية بحماية البيئة، بالإضافة إلى إدانتهم لعدم تطرق البيان الختامي إلى “الاستغناء” عن النفط والغاز والفحم، وهو ما طالبت به أكثر من مئة دولة، ورفضته الكويت والعراق والسعودية، وهي أكبر دولة مصدر للنفط في العالم.
وفيما كان المشاركون في الجلسة العامة يصفقون داخل القاعة، كان ممثلو أفراد المجتمع المدني والنشطاء في مجال المناخ يعبّرون عن عدم رضاهم بنتائج محادثات المناخ، إذ أن النتائج النهائية كانت مخيبة للآمال، وأخفقت في دفع الدول الغنية إلى الوفاء بمسؤولياتها المالية، فيما تركت الدول النامية دون ضمانات كافية تساعدها في الانتقال إلى الطاقة المتجددة.
وقال هارجيت سينغ، رئيس الاستراتيجية السياسية العالمية في شبكة العمل المناخي الدولية لأخبار الأمم المتحدة إن “القرار تشوبه ثغرات توفر لصناعة الوقود الأحفوري العديد من مسارات للمراوغة، بالاعتماد على أن التقنيات غير مجربة وغير آمنة”، وهو ما أظهر “نفاق الدول الغنية حيث تواصل توسيع عمليات الوقود الأحفوري على نطاق واسع بينما تكتفي بالتشدق بالتحول الأخضر”.
وفيما يخص تفعيل “صندوق الخسائر والأضرار”، وصف المبعوث الخاص لتمويل خطة عمل الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030 محمود محيي الدين “تمويل العمل المناخي بأنه غير كافٍ ويستغرق وقتًا طويلًا، وهو غير عادل لأن الدول الأكثر تضررًا من ظاهرة التغير المناخي مطالبة بسداد فاتورة أزمة ليست سببًا فيها كما أنها تحصل على النصيب الأقل من التمويل اللازم لتحقيق أهداف المناخ لديها”، بالنظر إلى التكلفة الاقتصادية السنوية المتوقعة للخسائر والأضرار في البلدان النامية، والتي تقدر بنحو 400 مليار دولار بحلول عام 2023 ونحو 1.8 تريليون دولار بحلول عام 2050، بينما تعهدت عدة دول بما فيها الإمارات، بتقديم أموال يبلغ مجموعها حوالي 700 مليون دولار فقط . بدورها رأت منظمة “غرينبيس” البيئية العالمية، أنه “لا يجب أيضًا أن يُخصص هذا التمويل فقط للخسائر والأضرار، بل عليهم توسيع نطاقه ليشمل أيضًا دعم تدابير التكيُّف والتخفيف من الآثار”.
انتقادات للدولة المستضيفة ولرئيس المؤتمر
شكلت استضافة الإمارات، الدول العضو في منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك”، والمتصدر المرتبة الثالثة في قائمة أكثر الدول المنتجة للنفط في العالم العربي، لمؤتمر الأمم المتحدة للمناخ، نموذجًا صارخًا عن استغلال الدولة الخليجية للمؤتمرات العالمية في سبيل “الغسيل الأخضر”، وهو وسيلة منتشرة بين الشركات لاستغلال المخاوف بشأن التغييرات المناخية، بحيث تدّعي جهات وشركات معينة تحمل مسؤولياتها تجاه البيئة، وذلك لجذب أعمال أكثر أو الخضوع لمستويات تدقيق أقل.
وللإمارات باعٌ طويلٌ في تفعيل جماعات الضغط في مجال الوقود الأحفوري منذ التسعينيات. وبشكل مضطرد، ازداد نشاط هذه اللوبيات، ففي COP26 وصل عدد المشاركين منها إلى 500، وفي COP27 ارتفع عدد الأعضاء المشاركين إلى 630، منهم 70 جماعة ضغط على ارتباط بشركات النفط والغاز الإماراتية. وعليه، فقد شكلت استضافة الإمارات لمؤتمر COP28 مجالًا لنشاط هذه الجماعات التي حاولت توجيه المحادثات لتقويض أي تقدم في العمل المناخي.
استثمرت الإمارات في مجالات الطاقة المتجددة، إلا أن اقتصادها وميزانيتها لا يزالا يعتمدان بشكل كبير على استمرار إنتاج الوقود الأحفوري. وفي هذا السياق، كشف تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، بأن السعودية وقطر والإمارات والكويت، من بين نحو 20 بلدًا رئيسًا منتجًا للوقود الأحفوري، تواصل تقديم دعم سياسي ومالي كبير لإنتاج الوقود الأحفوري. واستنادا إلى مراجعة وتحليل بيانات تلوث الهواء الحكومية وصور الأقمار الاصطناعية من عام 2018 إلى عام 2023، أفاد تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، أن “قطاع الوقود الأحفوري الإماراتي يساهم بشكل كبير في التلوث السام للهواء، في حين تسعى الحكومة إلى وضع نفسها في موقع الرائد العالمي في مؤتمر الأمم المتحدة المناخي “كوب 28”.
التناقض الواضح بين ما تحاوله الإمارات رسمه من صورة لنفسها، لتحجز به مقعدًا في الساحة العالمية، يعبّر عنه أيضًا، رئيس المؤتمر، سلطان الجابر، الذي تعرض على مدى أشهر لانتقادات من قبل بعض المدافعين عن البيئة لكونه أيضاً رئيس شركة النفط الوطنية الإماراتية “أدنوك”، وهي إحدى أكبر شركات النفط في العالم. وقد كشفت شبكة “بي بي سي” عن شبكة من الحسابات تعمل بالتنسيق بين بعضها للترويج لقمة المناخ ورئيسها. وقد دفعت هذه الممارسات أكثر من مئة عضو في البرلمان الأوروبي والكونغرس الأمريكي، إلى توقيع رسالة تطالب بإقالته من منصبه كرئيس للقمة باعتباره قد “عرّض عملية مؤتمر الأطراف للخطر الشديد”. أما من أخطر ما سربته الوثائق السرية، فكان عن خطط الإمارات لاستخدام دورها كمضيف لمحادثات الأمم المتحدة للمناخ كفرصة لإبرام صفقات النفط والغاز.
سجل حقوق أسود
منذ لحظة اختيار الإمارات كبلد مضيف للحدث العالمي، برزت انتقادات عدة حول سجل الدولة الخليجية في مجال حقوق الإنسان، وبرزت معها تساؤلات حول مدى الحريات المتاحة للمواطنين في التعبير عن آرائهم وتطلعاتهم لهذا الحدث الدولي الذي تستضيفه بلادهم، في ظل القبضة الأمنية على حرية التعبير في البلاد.
وعلى مدى أشهر، دقّت منظمات حقوقية عدّة أجراس الإنذار مبكرًا للتحذير من خطر منح الأمم المتحدة، دولة تتربع في أدنى المستويات العالمية في مؤشر حرية الإنسان لعام 2023، بترتيب 127 من أصل 165 دولة حول العالم.
لجأت الإمارات إلى برامج تجسس عالمية من بينها برامج تتبع لشركة استخباراتية إسرائيلية، للتجسس على هواتف النشطاء والمعارضين، ومراقبة المحتوى على الانترنت وفرض رقابة مفرطة على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد كشفت التحقيقات عن اعتماد الإمارات سلاح المراقبة الرقمية كوسيلة لسحق المعارضة وخنق حرية التعبير، وهو ما كان محط تحذير منظمة العفو الدولية من استخدام برامج التجسس لاستهداف المدافعين عن حقوق الإنسان وأعضاء المجتمع المدني، بما في ذلك أولئك الذين يحضرون مؤتمر كوب 28.
وبالفعل فإن هذه المخاوف كان في محلها، إذ يمكن تسجيل انتهاكات عدة لحقوق الإنسان تزامنت وانعقاد المؤتمر:
- بدء محاكمة جماعية تشمل أكثر من 80 مواطنًا إماراتيًا، بينهم مدافعون بارزون عن حقوق الإنسان وسجناء رأي.
- تقييد محتوى حسابات على الانترنت وحذف العديد من المنشورات.
- منع الحق في الاحتجاج السلمي وتقييد هذا الحق في مساحة محددة.
- منع منظمات المجتمع المدني من المشاركة في المؤتمر واقتصار المشاركة على منظمات حكومية.
- خلق جو تخويف من خلال مراقبة واسعة النطاق بواسطة كاميرات الفيديو وتصوير المشاركين في الأنشطة والفعاليات.
السياسة تبرر الوسيلة
وليس بعيدًا عن هذه الانتقادات، استغلت الإمارات المؤتمر الدولي لأهداف سياسية، من بينها التطبيع الحديث النشأة بينها وبين الكيان الإسرائيلي، إذ وجهت دعوة رسمية لرئيس الكيان إسحاق هرتسوغ ورئيس وزرائه بنيامين نتنياهو للمشاركة في المؤتمر. وقد أسفرت مشاركة هرتسوغ، في اعتراض دول مشاركة، على خلفية العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة وارتكابه الإبادة الجماعية بحق المدنيين وانتهاكات واضحة للقانون الدولي.
تلقي ممارسات الإمارات خلال مؤتمر المناخ لعام 2023، تساؤلات جدية حول استعداد الأمم المتحدة لمنح دول لها سجل أسود في مجال حقوق الإنسان في استغلال المنابر الدولية للتسويق لصورتها، فضلا عن مدى جدية تعهداتها في مجال الالتزام بتوصيات المؤتمر. وكان بيان مشترك لاثنين وأربعين منظمة حقوقية، قال إنه منذ 2013، ذُكرت الإمارات في كل تقرير سنوي للأمين العام للأمم المتحدة بشأن الترهيب والأعمال الانتقامية ضد الأشخاص الذين يسعون إلى التعاون أو تعاونوا مع الأمم المتحدة، مما يدل على استمرار المضايقات التي يواجهها المدافعون عن حقوق الإنسان في الإمارات.
كما تسلط الاستضافة الإماراتية للمؤتمر الضوء على الدعم الغربي لهذه الدول، والغطاء الممنوح لها للمضي في انتهاكاتها لحقوق الإنسان، والتغافل عن المناشدات لكف يد الإمارات عن انتهاكاتها. وكانت قد أرسلت أكثر من 19 جماعة حقوقية رسالة إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن، تدعو فيها الولايات المتحدة إلى الضغط على الإمارات للإفراج الفوري عن المدافعين عن حقوق الإنسان، كذلك حثّت هيومن رايتس ووتش في رسالة وجهتها إلى وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، على دعوة الإمارات إلى إنهاء قمعها للمجتمع المدني المستقل، والإفراج عن المدافعين الحقوقيين المسجونين.
وعليه، فإن إعطاء الإمارات فرصة لاستضافة المؤتمر، سمح للإمارات مجالًا لتلطيخ سمعة حدث عالمي بانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، والتحكم بمخرجات المؤتمر من خلال جماعات الضغط العاملة بمجال الوقود الأحفوري، والتشكيك بالحقائق العلمية من خلال تعيين شخصي ليس بموقع المسؤولية كرئيس للمؤتمر، استخدم منصبه للتسويق لمصالح شركته النفطية.
انطلاقًا مما سبق، تطالب منظمة أمريكيون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، الأمم المتحدة بممارسة دورها في حدّ دور دولًا ذات سجل حافل بانتهاكات حقوق الإنسان وتجريم حرية الرأي والتعبير واستخدام قوانين الإرهاب كشماعة لملاحقة المعارضين والنشطاء، ومحاسبتها بدلا من الترويج لها، ووقف السماح لها باستخدام أحداث عالمية واستغلال منابر دولية للتسويق لسياساتها وتبييض صورة انتهاكاتها.