يُمكن تعريف الإفلات من العقاب قانونيا، بأنه غياب العقوبة وغياب المسؤولية الجنائية عن المنتهكين لحقوق الإنسان. وهذا هو واقع الحال في البحرين، حيث تُمارس شتّى أنواع التعذيب والممارسات القمعية بحق المعتقلين في مباني التحقيقات الجنائية والسجون من دون أن تقوم الحكومة البحرينية بتوجيه أي عقوبات لهؤلاء الذين انتهكوا حقوق المعتقلين. وبرهنت الكثير من الحوادث أنّ الأمانة العامة للتظلمات في وزارة الداخلية ووحدة التحقيق الخاصة في النيابة العامة ، لم يقوما بالدور الذي أنيط إليهما في عام 2012 في القضاء على التعذيب أثناء الاستجواب في مراكز الاحتجازوبالتالي القضاء على سياسة الإفلات من العقاب السائدة في المملكة.
تأُسست الأمانة العامة للتظلمات في فبراير/شباط 2012، استنادا إلى توصيات من “اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق”، التي أُسِست للتحقيق في ادعاءات بانتهاكات حقوقية إثر قمع المظاهرات المطالبة بالديموقراطية بطريقة عنيفة في فبراير- مارس 2011. وتتسلم الأمانة العامة شكاوى من موقوفين أو عائلاتهم لتعرضهم لانتهاكات متعددة وتجري زيارات للسجن. أمثلة كثيرة تعكس حقيقة تقاعس الأمانة العامة للتظلمات عن القيام بدورها، فرغم تلقيها العديد من الشكاوى لم تُقدم على اتخاذ أي حل تجاه الشكاوى التي قدمتها والدة المعتقل إلياس فيصل الملا بشأن مماطلة إدارة سجن جو المركزي في تسليمها تقارير الياس الطبية. وفي مارس من هذا العام، احتشد العشرات من أهالي معتقلي سجن “جو” المركزي في البحرين أمام مبنى الأمانة العامة للتظلمات، لتقديم شكاوى بشأن الانتهاكات وسوء المعاملة التي يتعرّض لها أبناؤهم داخل السجن من قبل السلطات. وتتزايد الانتهاكات وأشكال التعذيب التي يمارسها رجال الأمن وقوات الشرطة داخل مباني التحقيقات والسجون . وقد نال الشاب محمد الشمالي ذو الخامسة عشر ربيعا نصيبا وافرا من الضرب والتعذيب منذ بدء التحقيق معه فيرمكز الشرطة العام 2012 ، دفعه للاعتراف بتهم لا تمت له بصلة وعندما سأله القاضي عن سبب الاعتراف ما كان منه إلا أن كشف له عن آثار التعذيب والضرب التي وسمت جسده النحيل . ولم تتوقف سلسلة تعرضه لأبشع أنواع التعذيب والاضطهاد بعد سجنه في سجن جو في ظل غياب سياسة الرقابة والمحاسبة ، من ضرب على الرأس بشكل وحشي استلزم تقطيب الجرح فيه لأربع مرات متتالية إلى إطفاء السجائر في فمه عدا عن خلع ملابسه وضربه والبصق عليه وغيرها من فنون التعذيب والإهانة دفع الأم أن تقدم أكثر من أربع شكاوي للتظلمات كان آخرها موثق بكاميرا مراقبة وضعت عند ساحة السجن . ورغم أن والدته تلقت من الأمانه العامة رسالة تفيد بوجد جنحة جنائية لتعرض ولدها لضرب من قبل أحد رجال الشرطة في الساحة إلا أن الشرطي مازال يمارس عمله ويزيد من انتقامه وأذيته لمحمد وزملائه .
وتعكس مثل هذه الحوادث حقيقة أنّ فتح التحقيقات مع من يمارس التعذيب ومحاسبته هو مجرد إجراء شكلي يؤدي إلى تجرأ المنتهكين على ممارسة الأعمال القمعية. وكان قد أعلن رئيس الأمانة العامة للتظلمات نواف المعاودة في مؤتمر صحفي في 25 سبتمر 2013 أنّ الأمانة لم ترصد أو تتلق أي شكوى حول تعرض نزلاء سجن جو بالتعذيب. ولا ترد الأمانة على شكاوى البعض . ومن أبرز أسماء لائحة المعتقلين التي تطول في السجون البحرينية والمُهدرة حقوقهم، المدافعة عن حقوق الإنسان إبتسام الصائغ التي تعرّضت للتعذيب في مقر جهاز الأمن القومي في المحرق أثناء استدعائها في 26 مايو 2017. وأكدت الصائغ أنّ المسؤوليين الأمنيين في الجهاز قاموا بتعصيب عينيها وضربها وركلها إضافة إلى تجريدها من ملابسها والإعتداء الجنسي عليها وإجبارها على الوقوف طوال مدة استجوابها، اي حوالي السبع ساعات. وتمّ إطلاق سراحها حوالي الساعة 11 مساء من ذات اليوم لتُنقل بعدها إلى المستشفى. ولم تتوقف قضية الصائغ هنا، فبعد حوالي الشهر على تقديم شكواها بالتعرض للتعذيب، وبدلا من محاسبة المعتدين الذين أشارت إليهم الصائغ ومحاكمتهم وفق توصيات اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق ، تمّ اعتقالها فجر يوم الثلاثاء 4 يوليو 2017 من دون أن تقدم قوات الأمن مذكرة تفتيش لاعتقالها. وبعدها بحوالي 20 يوماً، كشف حساب رئيس مركز البحرين لحقوق الإنسان نبيل رجب على تويتر، أنّ الناشطة الحقوقية الصائغ تعرضت لكسر في يدها اليمنى جراء التعذيب، وأنّها فقدت 11 كيلو من وزنها. وأُفاد عن رؤيته لإبتسام على كرسي متحرك في المستشفى وكان وضعها الصحي متدهورا جدا. وأضافت الناشطة الحقوقية أنها تعرضت في سجن النساء في مدينة عيسى لاستفزازات واستهداف من قبل الملازم مريم البارودي ومريم بحر. وبعد مرور حوالي الأربعة أشهر على اعتقالها، تمّ إطلاق سراح الصائغ بشكل مؤقت في 22 أكتوبر 2017.
واللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، التي تُعرف بلجنة بسيوني، تشكلت للنظر في الحوادث التي وقعت في فترة الإحتجاجات في عام 2011. قبل صدور تقرير بسيوني، أعربت السلطة البحرينية عن ترحيبها بالنتائج التي سوف يُصدرها التقرير وعن استعدادها للعمل بتوصيات اللجنة. إلا أنّ السلطات لم تطبق توصيات اللجنة بل استمر الوضع في البحرين بالتدهور نحو الأسوأ. وتسلّط العديد من الأمثلة الضوء على اتباع البحرين لسياسة الإفلات من العقاب، ففي26 شباط من العام 2014 استشهد الشاب جعفر محمد الدرازي نتيجة التعذيب المُفرط الذي تعرّض له في السجن وعدم تقديم خدمات الرعاية الصحية له، فقد كان يعاني جعفر من مرض السكلر. وقدّمت عائلته شكوى إلى الأمانة العامة للتظلمات تتهم فيها وزارة الداخلية بتعذيب جعفر منذ اعتقاله عام 2012. وهناك أدلة موثّقة على هذه السياسة المنتشرة في البحرين، ولعلّ أهمها قيام رئيس الوزراء البحريني خليفة بن سلمان آل خليفة بتقديم الشكر إلى مدير إدارة مكافحة المخدرات المقدّم مبارك بن حويل والذي تمّت تبرئته في العام 2013 من تهم تعذيب الأطباء عام 2011. وفي فيديو مصور، وعده رئيس الوزراء بتقديم الحصانة له.
ومن الأمثلة التي تتوالى اعتقال الصحفية نزيهة سعيد في مايو 2011، واتهمامها بمحاولة إسقاط النظام. حيث قامت مجموعة من ضباط الأمن بضربها بخرطوم وصعقها بصدمات كهربائية. وتمت محاكمة أحد ضباط الشرطة في قضية نزيهة، لكن تمت تبرئته في عام 2012. وبعد أكثر من عام، استدعت وحدة التحقيق الخاصة نزيهة سعيد لاستجوابها عن شكوى التعذيب، وطلبت منها تحديد الشرطيات اللواتي قمن بتعذيبها. إلا أن الوحدة لم تقم بملاحقة الشرطية التي قامت نزيهة بتحديدها. وفي نوفمبر 2015، أغلقت تحقيقاتها في شكوى التعذيب التي قدمتها نزيهة بسبب “عدم وجود أدلة”.
وتتجاهل البحرين ما يصدر عن المنظمات الحقوقية من تقارير أظهرت إخفاق الأمانة العامة للتظلمات ووحدة التحقيق الخاصة في الحد في محاسبة قوات الأمن وكبار المسؤولين عن تعذيب وسوء معاملة المحتجزين و مطالباتها بتفعيل توصيات اللجنة البحرينية المستقلة. من جهة ثانية قدّم التقرير السنوي الثالث لـ “الأمانة العامة للتظلمات”، الصادر في يونيو/حزيران 2016، أدلة إضافية على أن السلطات لم تحقق تقدما يُذكر في محاسبة الشرطة وقوات الأمن على تعذيب المحتجزين وسوء معاملتهم. ولم يتضمن تقرير الأمانة العامة لعام 2016 أي معطيات حول 15 تظلم تتعلق بأعمال تعذيب مزعومة ارتكبها مسؤولو سجن جو في حق سجناء في مارس 2015 . بل من جهة أخرى نجد أن ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة يصدر مرسوماً في 28 يناير 2013 يقضي بتعيين بسام المعراج مديراً عاما للإدارة العامة لمكافحة الفساد والأمن الاقتصادي والإلكتروني ، وهو من ضمن الأسماء التي نشرتها منظمة هيومان رايتس ووتش في تقريرها حول المسؤولين عن التعذيب في سجون البحرين، في تقريرها “التعذيب يُبعث من جديد”.
وفي 2 نوفمبر 2017، عقدت منظمة العفو الدولية ندوة “تحديات أمن وسلامة الصحفيين.. واقع الانتهاكات وجهود الحماية” في بيروت بمناسبة اليوم العالمي لإنهاء الافلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، تمّ فيها تسليط الضوء على قضيتي مؤسس صحيفة الوسط عبدالكريم الفخرواي والصحفية نزيهة سعيد. استشهد عبدالكريم فخراوي في 12 أبريل 2011 بالسجن وذلك بعد اختفاء أثره لفترة 9 أيام تقريباً. ويُذكر أنّ تقرير بسيوني أورد بأنّ فخراوي توفي بسبب التعذيب.
في الختام ، تدعو منظمة أمريكيون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان البحرين إلى التخلي عن سياسة الإفلات من العقاب، كونها تؤدي إلى استمرار الخروقات في مجال حقوق الإنسان. وتدعوها إلى الالتزام باتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادتان 7 و 9) والبحرين طرف في كل من هذه المعاهدات. وعلى حكومة البحرين أن توقف فوراً المحاكمات غير العادلة والممارسات القمعية التي تُمارس بحق المُعتقلين ومحاولة إسكات الأصوات المُعارضة عن طريق القوة. وعلى البحرين أن تفي بالتزاماتها من أجل أن يتغير الواقع المرير الذي يعيشه البحرانيون اليوم.